الدكتور حجت الله مرادي
يحمل بعض المفاهيم والكلمات أحياناً تغييرات جذرية في النمط الفكري. ومن جملة هذه المفاهيم مفهوم الحرب الناعمة والتهديد الناعم. فهذا المفهوم لا يشير فقط الى ظهور أساليب جديدة في النضال أو ظهور تحولات سياسية وأمنية جديدة، بل يشير الى ما هو أبعد من ذلك، ففي الواقع يدل على ظهور مدرسةٍ جديدةٍ في مجال الصراعات والنزاعات على المستوى الدولي، إذ يروّج التحولات السياسية والاجتماعية في كلّ مدةٍ من الزمن مفهوماً جديداً في الأدبيات السياسية والإستراتيجية للمجتمعات ويُصبح هذا المفهوم محور نقاشات ومباحثات المحافل النخبوية والمثقفة.
ونفهم من خلال التأمل في نقاشات وأدبيات الحرب الناعمة عدم وجود إجماعٍ مفهومي ووضوح في المعنى حول هذا المفهوم. ولكن رغم ذلك، يمكن تشخيص أربعة اتجاهات كحدٍ أدنى بين مجموعة هذه الأدبيات:
الاتجاه الأول: التهديد الناعم هو بمثابة العمليات النفسية للعدو ضد الرأي العام المحلي . انطلاقاً من هذا الاتجاه يعتبر التهديد الناعم مساوياً لمجموع الحملات النفسية- الدعائية لدولةٍ ضد دولةٍ أخرى.
الاتجاه الثاني:يعادل التهديد الناعم الإجراءات المخفية والتآمرية للأجهزة الأمنية المعادية ضد المجتمع ؛ وهكذا فإنّ التهديد الناعم عبارة عن مجموعة العمليات المخفية المنفّذة من قِبل الأجهزة الاستخباراتية.
الاتجاه الثالث: ينظر هذا الاتجاه الى التهديد الناعم على أنّه استهداف الأسس الذهنية والاعتقادية لنظام سياسي من قِبل المحافل المثقفة أو سائر المراجع الفكرية والمؤسسات الثقافية.
الاتجاه الرابع: يتمّ تلقي التهديد الناعم على أنّه تلك الاضطرابات الاجتماعية الواسعة والتي تهدف الى الإطاحة بنظامٍ سياسيٍّ .
ومع وجود اختلاف النظر في هذا التقييم المفهومي لهذه الاتجاهات الأربعة، يمكن القول إنّ جميعها عاجزة عن تناول كافة جوانب الموضوع، وهذا ما يُبقي السؤال التالي على قوته: بناءً على أي أساسٍ نظري وأيّ مؤشراتٍ كمية قابلة للقياس العلمي يمكن بناء الإطار المفهومي للحرب الناعمة والعناوين المندرجة تحتها؟
ومن خلال نظرةٍ إجمالية وأولية الى ظاهرة التهديد الناعم، يمكن تصور نموذج من أربعة أركان؛ حيث إنّ أهم الأركان المقوّمة لماهية الحرب الناعمة هي: التغيير السياسي، التخطيط، العنصر الخارجي، الهدف والأدوات. ولا يخفى أنّ هذا النموذج لا يُلغي العوامل المؤثرة الأخرى، لكن يبدو أنّ الاركان الأربعة المذكورة من أهم العوامل.
وكذلك يبدو أنّ أهم ركن يمكن أن يكون أصلاً مهماً في تشخيص ظواهر مثل التهديد الناعم والحرب الناعمة هو الهدف النهائي للظاهرة. ويمكن تلخيص هذا الهدف في عبارة "التغيير السياسي". لكن ليس بالضرورة أن يكون المقصود من "التغيير السياسي" ما يرمي إليه بالدقة أصحاب الرأي في علم الاجتماع السياسي، بل إنّ المقصود أكبر من ذلك. ببيانٍ آخر، يمكن جعل هدف لاعبي الحرب الناعمة في نقطةِ التقاء طرفي سلسلة حيث يشكّل الطرف الاول تغيير السلوك والطرف الثاني انهيار النظام السياسي. ولهذا السبب إنّ إطلاق عنوان الثورة الملوّنة على هكذا ظواهر غير صحيح. ولتوضيح إدعائنا، علينا الالتفات الى مفهوم التغيير السياسي بمعناه الخاص في أدبيات علم الاجتماع السياسي ومفهوم إعمال النفوذ وتغيير السلوك في أدبيات العلاقات الدولية.
لقراءة باقي المقال اضغط PDF