هل صحيح أنّ المساجد صارت سبباً في تخلّف المسلمين؟!
السؤال: هل صحيح أنّ المساجد وبخطابها الطائفي صارت سبباً في تأخير المسلمين قروناً إلى الوراء؟ (فادي).
الجواب: لست أفضّل هذا النوع من تقييم الأمور، لا في حقّ المساجد ولا في حقّ الكنائس ولا في حقّ النوادي الثقافية وغيرها، فالمساجد بيوت الله التي لطالما انتشر منها الإيمان والعفو والصدقة على الفقراء، وتمتين العلاقات الأسريّة، وتوثيق عرى التعاون بين الناس، ولطالما كان خطباء المساجد يدعون الناس إلى فعل الخير والتزاور، ودعم المجاهدين في كلّ مكان، ونصرة المظلومين، وإحياء أمر الدين، والاهتمام بالعلم، وترويج الثقافة الصالحة، وكانت المساجد في التاريخ الإسلامي تحوي أكبر حلقات العلم والمعرفة من مختلف العلوم تقريباً، فلا يصحّ ما نمارسه وندمنه في بلادنا مؤخّراً من الحكم على الأشياء بنظرة واحدة آنيّة، نتيجة ضغط مرحليّ زمني، بل علينا أن نكون نحن أكبر من الضغط الآني، فالنفوس الكبيرة هي التي تفتّت المشاكل، وأمّا النفوس الصغيرة فهي التي تفتتها المشاكل والضغوطات، وتدفعها نحو الأحكام الإطلاقيّة الخاطئة.
نعم، إنّ العديد من الخطباء وأئمّة المساجد اليوم ـ وقبل اليوم ـ لا يرقى أداؤهم وخطابهم إلى المستوى المطلوب، وكثيراً ما نجد إصراراً على إشغال الناس بقضايا التاريخ بدل النهوض بهم لقضايا الحاضر وحلّ مشكلاته، وبدل نشر الوعي والعقلانية والموضوعيّة ومنطق التفكير وأدب الاختلاف وثقافة التعاون بين المسلمين، ونشر المحبّة والتواصل والإيجابية مع الآخر المختلف معنا في الدين واللغة والقومية و..، والتركيز على المشاكل الاجتماعية والأسريّة، وقضايا الاغتراب وأنشطة المجتمع المدني، صارت بعض المساجد ـ من خلال بعض العاملين فيها ـ منبراً للحقد والكراهية والبعد عن المنطق والتعرّض للناس وأشخاصهم وأعراضهم، ونشر الفتنة بينهم، والترويج للأفكار والقصص والحكايات التي لم تثبت بدليل معتبر وعلمي، وربما صارت بعض المساجد في بلاد المسلمين منبراً للخرافة والتهريج والعصبيّة والصراخ والتكرار، ففقد الناس ـ أحياناً ـ الشعور بمرجعيّة المسجد، وفقدوا الإحساس بكونه منارة هدى تشعّ بالخير على المجتمع، بل صاروا يرونه معيقاً عن الاندماج في الحياة، وصانعاً لشخصيّات معوجّة في فكرها وتعاملها أحياناً، وهذا راجع إلى تدهور حال بعض أجنحة أو زوايا المؤسّسة الدينيّة عموماً عند المذاهب (أو غياب هذه المؤسّسة عن لعب دورها الحقيقي أحياناً)، وليس إلى المسجد بما هو مسجد، ولهذا علينا الاشتغال على إنقاذ المساجد نفسها من الظلم الذي ينزل بها هنا أو هناك، لإعطائها دورها الصحيح في نشر الطمأنينة الروحيّة والسلام الداخلي، والنهوض بالمجتمع ليكون صالحاً على مختلف الصعد.
أمّا إطلاق الكلام بأنّ المساجد أخّرت المسلمين، فهو كقول الطرف الآخر: إنّ الفنّ والموسيقى أفسدا الشعوب، فالفنّ والموسيقى لا يُفسدان الشعوب بل يرتقيان بها، وإذا تدهورت أحوال الفنّ والموسيقى عند بعض الناس أو كثير منهم، فلا يعني ذلك أن نطلق موقفاً برفض الفنّ والموسيقى مطلقاً، فالموسيقى والفنّ الراقيان والهادفان علاجات روحيّة للنفس الإنسانيّة، ومهدّئات ومطرّيات ومرطّبات للروح بدل قسوة المشاعر وجفاف العواطف التي تعمّ كثيراً من أرجاء العالم الإسلامي، وبعض ما يفعله بعض الناس من النظر إليهما وكأنّهما عيب أو جرم، غير صحيح، بعدما لم يحرّم الإسلام كلّ فنّ وكلّ موسيقى كما يظنّ بعض الناس، ولا أكثر الفقهاء بالذين يفعلون ذلك، بل هم يميّزون بين أنواعهما.
ولهذا فمثل هذه الأحكام المطلقة والتي باتت من أمراض مجتمعاتنا لا تنتج ولا تستطيع أن تعالج مشكلةً، بل صارت هي بعينها مشكلة حقيقيّة، فعلينا دائماً التمييز، وكما قال بعضهم: لا يكون علاج وجع الرأس بقطع الرأس نفسه، بل يكون بتحديد مركز المشكلة لمداواتها، ولو أنّنا نمارس في أحكامنا هذه الطريقة لربما رأينا بكلّ وضوح دور المساجد والفنّ والموسيقى وغيرها كم هو رائع وجميل، وفي الوقت عينه رأينا كم أنّ هناك مشاكل ومصائب وأزمات، وفكّكنا الأمور عن بعضها، وخفّفنا عن أنفسنا ثقل الأحكام المطلقة التي ابتُلينا بها، ولكنّ العقل لا يمكنه أن يشتغل بطريقة صحيحة إذا لم تكن النفس سليمة أيضاً وهادئة تعيش الصفاء، فالعقل السليم في الجسم السليم، والعقل السليم في النفس السليمة أيضاً، رزقنا الله وإيّاكم عقلاً سليماً وجسماً ونفساً كذلك.
الشيخ حيدر حب الله