خلافة الإنسان | ((فكر الشهيد الصدر)) |
1- خطّ الخلافة في القرآن الكريم:
إنّ الله سبحانه وتعالى شرّف الإنسان بالخلافة على الأرض، فأصبح الكائن الوحيد المتميّز بهذا الشرف من بين كلّ كائنات الكون، لذا استحقّ الإنسان أن تسجد له الملائكة، وتدين له بالطاعة كلّ قوى الكون المنظور وغير المنظور. والخلافة الّتي تحدّث عنها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء﴾1، ليست استخلافاً لشخص آدم عليه السلام بل للجنس البشريّ كلّه، لأنّ من يُفسد في الأرض ويسفك الدماء - وفقاً لمخاوف الملائكة - ليس آدم بالذّات بل الآدميّة والإنسانيّة على امتدادها التأريخيّ. فالخلافة إذاً، قد أُعطيت للإنسانيّة ككلّ على الأرض كما قال تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْض﴾2 وما نبيّ الله آدم عليه السلام سوى المثل الأوّل بوصفه الإنسان الأوّل الّذي تسلّم هذه الخلافة، وحظي بهذا الشرف الربّانيّ فسجدت له الملائكة ودانت له قوى الأرض. وكما تحدّث القرآن الكريم عن عمليّة الاستخلاف من جانب الله تعالى، كذلك تحدّث عن تحمّل الإنسان لأعباء هذه الخلافة بوصفها أمانة عظيمة ينوء الكون كلّه بحملها؛ قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾3 .
2- مراحل الخلافة وأنواعها:
إنّ استخلاف الله تعالى خليفة في الأرض لا يعني استخلافه على الأرض فحسب، بل يشمل هذا الاستخلاف كلّ ما للمستخلِف سبحانه وتعالى من أمور تعود إليه، فالله تعالى هو ربّ الأرض وخيراتها، وربّ الإنسان والحيوان وكلّ دابة تنتشر في أرجاء الكون الفسيح، وهذا يعني أنّ خليفة الله في الأرض مستخلَف على كلّ هذه الأشياء. وعلى هذا الأساس يتمّ الاستخلاف على مرحلتين: المرحلة الأولى: استخلاف للجماعة البشريّة الصالحة ككلّ، قال تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾4. وهذا النصّ يتحدّث عن أموال السفهاء وينهى الجماعة عن أنْ يُسلّموها إلى السفهاء، أمّا الشاهد في النصّ فهو أنّه قد أضاف الأموال إلى الجماعة نفسها على الرغم من أنّهاأموال أفراد منهم، وذلك إشعار بأنّ الأموال في هذا الكون قد جُعلت لإقامة حياة الجماعة، وتمكينها من مواصلة حياتها الكريمة، وتحقيق الأهداف الإلهيّة من خلافة الإنسان على الأرض، ولمّا كان السفيه لا يصلح لتحقيق هذه الأهداف فقد منع الله الجماعة من إطلاق يده في أمواله. ومن ناحية أخرى نُلاحظ أنّ القرآن الكريم والفقه الإسلاميّ يُطلق على كلّ الثروات الطبيعيّة الّتي تحصل عليها الجماعة المسلمة من الكفّار اسم (الفيء)، ويعتبرها (ملكيّة عامّة)5. والفيء كلمة تدلّ على إعادة الشيء إلى أصله، وهذا يعني أنّ هذه الثروات كلّها في الأصل للجماعة، وأنّ الاستخلاف من الله تعالى استخلاف للجماعة. ولهذا فإنّ الجماعة ككلّ - بحكم هذا الاستخلاف - مسؤولة أمام الله تعالى، ومسؤوليّتها تُحدّدها الآية الكريمة: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ... وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار﴾6. فإنّ هذا النصّ القرآنيّ بعد أنْ يستعرض ما استخلف الله عليه الإنسان من ثروات الكون، وطاقاته ونعمه الموفورة، أشار إلى لونين من الانحراف: الأوّل: الظلم، ويعني سوء التوزيع وعدم توفير هذه النعم للأفراد والجماعة على السواء، بما يُعتبر ظلم بعض أفراد الجماعة لبعضهم الآخر، لذا لا بُدّ للجماعة ككلّ أنْ تتحمّل مسؤوليّاتها بين يدي المستخلِف سبحانه وتعالى، وأنْ تقوم بالتوزيع العادل7 للثروة، وبشكل لا يتعارض مع خلافتها العامّة وحقّها ككلّ فيما خلقه الله من ثروات ونِعَم. الثاني: كفران النعمة، أي تقصير الجماعة في استثمار ما حباها الله به من طاقات الكون وخيراته المتنوّعة، بما يُعتبر ذلك ظلم الجماعة نفسها، الأمر الّذي يتطلّب تحمّل الجماعة لمسؤوليّاتها في إقامة العدل وتنمية الثروة من خلال بذل مجمل طاقاتها في استثمار الكون وإعمار الأرض. - المرحلة الثانية: استخلاف الأفراد، الّذي يتّخذ من الناحية الفقهيّة والقانونيّة شكل (الملكيّة الخاصّة). والاستخلاف هنا من الجماعة للفرد، ولهذا أضافت الآية الكريمة - الآنفة الذكر8- أموال الأفراد إلى الجماعة. وعلى هذا الأساس لا يُمكن أنْ تُقرّ أيّ ملكيّة خاصّة تتعارض مع خلافة الجماعة وحقّها ككلّ في الثروة والنعم الإلهيّة. وما دامت الملكيّة الخاصّة استخلافاً للفرد من قبل الجماعة فمن الطبيعيّ أنْ يكون الفرد مسؤولاً أمام الجماعة عن تصرّفاته في ماله، وانسجامها مع مسؤوليّاتها أمام الله تعالى ومتطلّبات خلافتها العامّة. ومن الطبيعيّ أنْ يكون من حقّ الممثِّل الشرعيّ للجماعة أنْ ينتزع من الفرد ملكيّته الخاصّة إذا جعل منها أداة للإضرار بالجماعة والتعدّي على الآخرين، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنْ يُقلع عذق شجرة سمرة بن جندب الّذي طريقه إليها في جوف منزل رجل من الأنصار، كان يسلكه سمرة بن جندب دون إذن الأنصاريّ، ولمّا شكاه الأنصاريّ لدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفض سمرة أنْ يقلع ذلك العذق، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقلعه، لأنّ فيه ضرراً على مؤمن، وهو الأنصاريّ، وأطلق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القاعدة الإسلاميّة المشهورة: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".
3- شموليّة مفهوم الخلافة للحكم والسياسة:
بناء على ما سبق، يتّضح لدينا أنّ إدارة الحكم والسياسة بين النّاس متفرّعة من جعل الخلافة للإنسان، كما يُلاحظ في الآية الكريمة: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾9. ولمّا كانت الجماعة البشريّة ـ متمثّلة في النبيّ آدمعليه السلام هي الّتي مُنحت هذه الخلافة فهي إذاً المكلّفة برعاية الكون، وتدبير أمر الإنسان، والسير بالبشريّة في الطريق المرسوم للخلافة الربّانيّة. وهذا يُعطي مفهوم الإسلام الأساس عن الخلافة، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى أناب الجماعة البشريّة ـ بوصفها خليفة الله تعالى ـ في الحكم وقيادة الكون وإعماره اجتماعيّاً وطبيعيّاً.
4- الركائز العامّة للخلافة:
إنّ عمليّة الاستخلاف الربّانيّ للجماعة على الأرض بهذا المفهوم الواسع - الّذي تقدّم ذكره - يقتضي أن يكون هناك ركائز عامّة للخلافة: أوّلاً: انتماء الجماعة البشريّة إلى محور واحد وهو المستخلِف، أي الله سبحانه وتعالى بدلاً عن كلّ الانتماءات الأخرى، والإيمان بسيّد واحد ومالك واحد للكون، وهذا هو التوحيد الخالص الّذي قام على أساسه الإسلام، وحملت لواءه كلّ ثورات الأنبياء عليهم السلام تحت شعار "لا إله إلا الله". قال تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾10.وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾11. ثانياً: إقامة العلاقات الاجتماعيّة على أساس العبوديّة المخلصة لله، وتحرير الإنسان من عبوديّة الأسماء الّتي تُمثّل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت. قال تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا﴾12. ثالثاً: تجسيد روح الأخوّة العامّة في كلّ العلاقات الاجتماعيّة بعد محو ألوان الاستغلال والتسلّط، فما دام الله سبحانه وتعالى واحد ولا سيادة إلّا له والناس جميعاً عباده ومتساوون بالنسبة إليه، فمن الطبيعي أن يكونوا إخوة متكافئين في الكرامة الإنسانية والحقوق كأسنان المشط على ما عبّر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ولا تفاضل ولا تمييز في الحقوق الإنسانيّة ولا يقوم التفاضل على مقاييس الكرامة عند الله تعالى إلا على أساس العمل الصالح تقوى أو علماً أو جهاداً، قال تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾13. رابعاً: إنّ الخلافة استئمان ولهذا عبّر القرآن الكريم عنها بالأمانة: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ...﴾14. والأمانة تفترض المسؤوليّة والإحساس بالواجب، إذ بدون إدراك الإنسان أنّه مسؤول لا يُمكن أنْ ينهض بأعباء الأمانة، أو يُختار لممارسة دور الخلافة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾15. 5- أبعاد مسؤوليّة خلافة الإنسان ودلالاتها: تُعتبر مسؤوليّة الإنسان في تحمّل أمانة الاستخلاف علاقة ذات حدَّين: أوّلاً: من ناحية تعني الارتباط والتقيّد، فالجماعة البشريّة التي تتحمّل مسؤوليّة الخلافة على الأرض، إنّما تُمارس هذا الدور بوصفها خليفة لله. ولهذا فهي غير مخوّلة بأنْ تحكم بهواها وباجتهادها المنفصل عن توجيه الله سبحانه وتعالى، لأنّ هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف، بالتّالي لا بُدَّ أنْ تحكم بالحقّ وتؤدّي إلى الله تعالى أمانته بتطبيق أحكامه على عباده وبلاده. وعلى هذا الأساس تتميّز خلافة الجماعة بمفهومها الإسلاميّ عن حكم الجماعة في الأنظمة الديمقراطيّة الغربيّة، فالجماعة في هذه الأنظمة هي صاحبة السيادة، ولا تنوب عن الله في ممارستها، وبالتّالي هي ليست مسؤولة أمام أحد، وغير ملزمة بشيء حتّى لو اتّفقت على شيء مخالف لمصلحتها وكرامتها كلّيّاً أو جزئيّاً على حدٍّ سواء. وعلى العكس من ذلك حكم الجماعة القائم على أساس الاستخلاف، فإنّ الجماعة تكون مسؤولة أمام الله تعالى، وملزمة بتطبيق الحقّ والعدل، ورفض الظلم والطغيان، وليست مخيّرة بين هذا وذاك. حتى أنّ القرآن الكريم يُسمّي الجماعة التي تقبل بالظلم وتستسيغ السكوت عن الطغيان بأنّها ظالمة لنفسها ويعتبرها مسؤولة عن هذا الظلم ومطالبة برفضه بأيّ شكل من الأشكال ولو بالهجرة والانفصال إذا تعذّر التعبير، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾16. ثانياً: تعني المسؤوليّة من ناحية أخرى أنّ الإنسان كائنٌ حرٌّ، إذ بدون الاختيار والحريّة لا معنى للمسؤوليّة. ومن أجل ذلك كان بالإمكان أنْ يُستنتج من جعل الله له خليفةً على الأرضِ، أنّه يجعل الكائن الحرّ المختار، الّذي بإمكانه أنْ يُصلح في الأرض، وبإمكانه أنْ يُفسد أيضاً، وبإرادته واختياره يُحدّد ما يُحقّقه من هذه الإمكانات، قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾17. وأكبر الظنّ أنّ هذه الحقيقة هي التي أثارت في نفوس الملائكة المخاوف من مصير هذه الخلافة وإمكانية انحرافها عن الطريق السوي إلى طريق الفساد وسفك الدماء لأنّ صلاح المسيرة البشريّة لمّا كان مرتبطاً بإرادة هذا الإنسان الخليفة ولم يكن مضموناً بقانون قاهر كما هي الحالة في كلّ مجالات الطبيعة، فمن المتوقّع أن تجد إمكانيّة الإفساد والشر مجالاً لها في الممارسة البشريّة على أشكالها المختلفة، وكأنّ الملائكة هالهم أن توجد لأوّل مرّة طاقة محايدة يتعادل فيها الخير والشر ولا تضبط وفقاً للقوانين الطبيعيّة والكونيّة الصارمة الّتي تسيّر الكون بالحكمة والتدبير، وفضّلوا على ذلك الكائن الّذي يولد ناجزاً مصمّماً لا فراغ في سلوكه تتحكّم فيه باستمرار قوانين الكون كما تتحكّم في الظواهر الطبيعيّة. 6- خلافة الإنسان وهاجس الملائكة: إنّ كون إحدى جوانب مسؤوليّة خلافة الإنسان اعتبار الإنسان كائناً حرّاً مختاراً - كما تبيّن لنا فيما سبق - هو أكبر الظنّ الحقيقة الّتي أثارت في نفوس الملائكة هواجس ومخاوف من مصير هذه الخلافة، وإمكانيّة انحرافها عن الطريق السويّ إلى طريق الفساد وسفك الدماء، لأنّ صلاح المسيرة البشريّة لمّا كان مرتبطاً بإرادة هذا الإنسان الخليفة، ولم يكن مضموناً بقانون قاهر كما هي الحالة في كلّ ظواهر القوانين الطبيعيّة والكونيّة الصارمة، الّتي تُسيّر الكون بالحكمة والتدبّر، فمن المتوقّع أنْ تجد إمكانية الإفساد والشرّ مجالاً لها في الممارسة البشريّة على أشكالها المختلفة. ومن هنا قدّم الملائكة أنفسهم كبديل عن الخليفة الجديد: ﴿... قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾18، ولكن فاتهم أنّ الكائن الحرّ الّذي جعله الله تعالى خليفة في الأرض لا تعني حريّته إهمال الله تعالى له، بل هو تغيير لشكل الرعاية، فبدلاً عن الرعاية من خلال قانون طبيعيّ لا يتخلّف ـ كما تُرعى حركات الكواكب ومسيرة كلّ ذرّة في الكون - يتولّى الله سبحانه وتعالى تربية هذا الخليفة وتعليمه: ﴿... قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا..﴾19، وذلك لكي يصنع الإنسان قدره ومصيره ويُنمّي وجوده على ضوء هدى وكتاب منير. ومن هنا علّم الله تعالى النبيّ عليه السلام آدمَ الأسماء كلّها، وأثبت للملائكة من خلال المقارنة بينه وبينهم: ﴿... وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...﴾20أنّ هذا الكائن - وهو الإنسان - الحرّ الّذي اجتباه للخلافة قابل للتعليم والتنمية الربّانية، وأنّ الله تعالى قد وضع له قانون تكامله من خلال خطّ آخر - لم تلحظه الملائكة - يجب أنْ يسير إلى جانب خطّ الخلافة، وهو خطّ الشهادة21 الّذي يُمثِّل القيادة الربّانيّة والتوجيه الربّانيّ على الأرض، ويحمل إلى الناس هدى الله، ويعمل من أجل تحصينهم من الانحراف، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾22.
7- أهداف الخلافة بين الإسلام والجاهليّة:حينما وضع الإسلامُ مبدأ خلافة الإنسان على الأرض لم يضعها مجرّدة من أهدافها الصالحة، بل وضع تصوّراً وقيماً لهذه الأهداف، بحيث أدّت إلى انقلاب عظيم على التصوّرات والمفاهيم حول ملكيّة الإنسان للثروة في عصر الجاهليّة، الأمر الّذي ترتّب عليه انقلاب شامل لكلّ الوسائل والأساليب في تملّك الثروة والسيطرة عليها فضلاً عن استثمارها وتنميتها.
وبعبارة أخرى: إنّ المجتمعات الجاهليّة لا تنظر إلى الحياة إلّا من خلال شوطها القصير الّذي ينتهي بالموت، ولا تُدرك ذاتَها ومتَعَها إلّا من خلال إشباع ما لدى الإنسان من غرائز وشهوات، وهي على هذا الأساس تجد في المال بوصفه مالاً، وفي تجميعه وادّخاره والتنافس فيه الهدف الطبيعيّ الّذي يضمن للإنسان القدرة على امتصاص أكبر قدر ممكن من إمكانات الحياة المادّيّة والخلود (النسبيّ) فيها. وكان هذا التصوّر للحياة ولدور المال فيها الأساس لكلِّ ما زخرت به المجتمعات الجاهليّة من محاولات الاستزادة والتكاثر، وألوان التناقض والاستغلال، لأنّ مسرح الحياة المادّيّة محدود، والأوامر معدودة، واللاعبون كثيرون، وصاحب الحظّ السعيد من يحصل على أكبر عدد من تلك الأوراق ولو على حساب الآخرين23. ولإزالة هذا التصوّر والمفهوم الجاهليّ - بثوبيه القديم والحديث - واستئصال جذوره النفسيّة من الإنسان، قام الإسلام بشجب المال وتجميعه، وادّخاره والتكاثر فيه كهدف، ونفي أيّ دور له في تخليد الإنسان أو منحه وجوداً حقيقيّاً أكبر. يُقدّم لنا القرآن الكريم صوراً عديدة ضمن عدد من الآيات الكريمة، منها قوله تعالى: ـ ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾24.ـ ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ *حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ...﴾25. ـ ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾26. 8- قيمة الإنسان ولم يقتصر الإسلام على شجب أهداف الجاهليّة وقيمها عن الحياة - كما تبيّن لنا من خلال الآيات السابقة - بل وضع بدلاً عنها الهدف الّذي يجب أنْ تسير الإنسانيّة في اتّجاهه. قال سبحانه: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾27. في هاتين الآيتين الكريمتين وضع الله عزَّ وجلَّ بدلاً عن المثل والقيم بالمقاييس الجاهليّة - ألا وهي كثرة المال والثروة - مقياس (الأحسن عملاً) كمثل أعلى وهدف أوّليّ، وحثّ الناس على التنافس فيما بينهم ضمن هذا المقياس الربّانيّ من خلال التسابق نحو العمل الصالح والأحسن، قال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾28. ولكي يقوم هذا الهدف الجديد على أساس واقعيّ ومتين، أعطى الإسلام نظرة جديدة للحياة الدنيا، فربطها بعالم غير منظور حسيّاً وهو عالم الحقّ، عالم الآخرة، حيث تخلد فيه الأعمال الصالحة والحسنة وليس كثرة المال واكتناز الثروة، بل جعل المولى عزَّ وجلَّ إنفاق المال والثروة في سبيله وإعلاء كلمته تجارة مربحة، فضلاً عن قابليّتها للنموّ وإثراء روح الإنسان في الدنيا والآخرة: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾29. ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾30.
الخلاصة:أوّلاً: شرّف الله سبحانه وتعالى الإنسان بخلافته على الأرض في كلّ شيء، لذا تُعتبر الخلافة أحد أركان بناء المجتمع التوحيديّ.
ثانياً: تمرّ خلافة الإنسان على الأرض بمرحلتين، الأولى مرحلة استخلاف الجماعة البشريّة الصالحة ككلّ، أمّا المرحلة الثانية فهي مرحلة استخلاف الأفراد الّذين يستمدّون خلافتهم من خلافة الأمّة ككلّ. ثالثاً: تستند خلافة الإنسان على الأرض إلى عدّة ركائز، منها انتماء البشريّة إلى محور واحد وهو المستخلِف، الله سبحانه وتعالى، الأمر الّذي ينعكس إيجاباً على تعزيز روح الأخوّة في العلاقات الاجتماعيّة، ويُساعد على تحمّل أمانة الخلافة.
*خلافة الإنسان، سلسلة دروس في فكر الشهيد الصدر ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1-سورة البقرة، الآية: 30.
2-سورة فاطر، الآية: 39. 3-سورة الأحزاب، الآية: 72. 4-سورة النساء، الآية: 5. 5-هذا النوع الأوّل من أنواع الاستخلاف، أمّا النوع الثاني فهو (الملكيّة الخاصّة) للأفراد في المجتمع الإسلاميّ كما سيأتي بيانه. 6- سورة إبراهيم، الآية: 34. 7-وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ العدل الّذي قامت على أساسه مسؤوليّات الجماعة في خلافتها العامّة، هو في الواقع يُعبّر عن البعد الاجتماعيّ لمفهوم العدل الإلهيّ كأصلٍ ثانٍ من أصول الدين يتلو التوحيد مباشرة. بمعنى أنّ التوحيد يعني اجتماعيّاً أنّ الله تعالى هو المالك الحقيقيّ للكون والوجود، أمّا العدل فيعني أنّ الله تعالى مالك الملك وحده لا يُؤثر فرداً على فرد، بل يستخلف الجماعة الصالحة على ما وفّر من نعم وثروات. 8-سورة النساء، الآية: 5. 9-سورة ص، الآية: 26. 10-سورة البقرة، الآية: 138. 11-سورة يوسف، الآية: 39. 12-سورة يوسف، الآية: 40. 13-سورة النجم، الآية: 39. 14-سورة الأحزاب، الآية: 72. 15-سورة الإسراء، الآية: 34. 16-سورة النساء، الآية: 97. 17-سورة الإنسان، الآية: 3. 18-سورة البقرة، الآية: 30. 19-سورة البقرة، الآية: 30 - 31. 20-سورة البقرة، الآية: 31 - 33. 21-سيأتي تفصيل خط الشهادة لاحقاً. 22-سورة البقرة، الآية: 38. 23-وما نشهده اليوم من قيام أميركا وربيبتها إسرائيل بالحروب والدمار واحتلال أراضي الشعوب الأخرى، والسيطرة على ثرواتها وامتصاصها، ما هو إلّا وجه من وجوه الجاهليّة بثوبها الحديث الّتي تعيش هذه الحياة الماديّة الضيّقة والمظلمة. 24-سورة الهمزة، الآيات: 1 - 7. 25-سورة التكاثر، الآيتان: 1 - 2. 26-سورة التوبة، الآية: 34. 27-سورة تبارك، الآيتان: 1 - 2. 28-سورة المطففين، الآية: 26. 29-سورة الأنعام، الآية: 160. 30-سورة البقرة، الآية: 261 |
الثلاثاء، 18 أغسطس 2015
خلافة الإنسان
بواسطة:أدمن
10:17 ص