تكذيب يعقوب لابنائه رغم صدقهم لماذا؟
السؤال:
إنَّ يعقوب النبي (ع) أجاب ابناءه بعد أن أخبروه ﴿إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا.. ﴾(1) أجابهم بقوله: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا﴾(2) وظاهر ذلك هو التكذيب لهم رغم أنهم كانوا صادقين هذه المرة ولم يكن ما وقع لبنيامين عن تقصيرٍ منهم، فما هو التوجيه لذلك؟
الجواب:
محصَّل
ما اعتذر به أبناءُ يعقوب (ع) عن تخلف أخيهم بنيامين في مصر هو أنَّه سرق
أو أنه اُتهم بالسرقة، وكان هذا الاعتذار مطابقاً للواقع ظاهراً، وأمارةُ
الصدق عليه ظاهرة حيث أن الحدث وقع في محضر القافلة التي كانوا في رفقتها
وفي محضر عددٍ من أهل مصر فلا يسعهم الكذب وذلك لإدراكهم أن من الميسور
التحري من صدقهم وعدمه في مثل هذا الخبر، ولأنهم كانوا واثقين من صدق ما
اعتذروا به لذلك التمسوا من أبيهم التثبُّت من صدقهم بسؤال القافلة وسؤال
أهل مصر إن أراد ذلك.
لهذا
لم يكن فيما أجاب به يعقوب"ع" أبناءه تكذيب لخبرهم، إذ لا يسعه ذلك قبل
التثبت خصوصاً وأن مثل هذا الخبر المحفوف بأمارة الصدق مما يكن التثبت من
واقعيته أو عدمها، فلا يصدر التكذيب في مثل هذا الفرض من عاقل منصف فضلاً
عن نبيٍ من الأنبياء فليكن ذلك قرينة على عدم إرادته التكذيب من جوابه لهم.
على
إن ما أجاب به يعقوب أبناءه لم يكن ظاهراً في التكذيب لخبرهم بل هو ظاهر
في النفي والتخطئة لابنائه فيما ادعوه من أن سبب تخلف بنيامين في مصر هو
أنه سرق أو اتهم بالسرقة ، فذلك وإن كان قد وقع إلا أنه لم يكن السبب
الواقعي وراء تخلفه عنهم في مصر بل إن السبب الواقعي هو ما سولت لكم
أنفسكم، وفي ذلك إشارة وتذكير بالسبب الواقعي الذي ترتب عليه تخلف بنيامين
عنهم في مصر، فالسبب الواقعي ليس هو اتهامه بالسرقة وعجزه لذلك عن الرجوع
إلى بلده فذلك ما هو إلا واحد من نتائج ما فعلوه بيوسف (ع).
فلولا
أنهم غيَّبوا يوسف"ع" عن أبيه وشقيقه بنيامين لما كان من مقتضٍ إلى اتهامه
بالسرقة حتى يبقى مع شقيقه في مصر، ولما اقتضى ذلك تخلف أخيهم الأكبر في
مصر حياءً من أبيه.
فقول يعقوب (ع): ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا﴾
لم يكن تكذيباً لخبرهم بل كان توبيخاً وتخطئة لدعواهم أن منشأ تخلف
بنيامين هو أنه اتهم بالسرقة، فإن هذا السبب لم يكن هو السبب الحقيقي بل
كان سبباً ظاهرياً، وأما السبب الواقعي فهو ما كان قد سولته لكم أنفسكم حين
غيبتم يوسف عن أبيه وشقيقه، فكأنه أراد أن يقول: إن كل ما وقع لنا إنما هو
من تبعات ذلك الفعل الشنيع.
فمساق
جواب يعقوب لابنائه هو مساق قول الأب لزوجته بعد أن تخبره أن ابنه حبس
لأنه اعتدى على مال غيره فيجيبها "بل هي تربيتك الفاسدة" فإن جوابه ليس
تكذيباً لها فيما أخبرت به من أن سبب حبسه هو أنه اعتدى على مال الغير بل
هو بيان للسبب الواقعي الذي ترتب عليه حبسه في نظره. والمؤشر على أنه أراد
من جوابه الإشارة إلى ما حدث ليوسف (ع) هو أنَّه بعد أن أجابهم بقوله: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ تولى عنهم ﴿وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾(3) وذلك يشعر بأن ما وقع ليوسف (ع) كان حاضراً في جوابه وفي المحاورة التي كانت بينه وبينهم، وكذلك فإنَّ قوله: ﴿عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا﴾(4)
مشعر بأنه كان محرزاً لوجود بنيامين وإن عدم رجوعه لم يكن ناشئاً عن موته
أو أنهم قتلوه وأنَّ ثمة عائقاً منعه من الرجوع معهم، لذلك عبَّر بما يظهر
منه الترجي لرجوعه وليس الترجِّي لحياته.
ثم إن قوله لهم: ﴿اذْهَبُواْ
فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ
اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ.. ﴾(5)
مشعر إن لم يكن ظاهراً في أنه صدقهم في أن عدم رجوع بنيامين معهم كان
لسببٍ خارجٍ عن اختيارهم واختيار بنيامين، إذ أن ذلك هو مفاد وعظه لهم بعدم
اليأس من روح الله تعالى، فكأنه أراد القول لهم أن أمر بنيامين وأن كان قد
خرج من أيديكم وأنكم صادقون فيما أخبرتم إلا أن ذلك لا يبرر اليأس من روح
الله، لذلك فإن عليكم الرجوع إلى مصر وتقصي الأمر فلعلكم تقفون على حقيقة
ما وقع لبنيامين، ولعل في ذلك ما يوصل إلى يوسف (ع).