كتمان الحق
الآيتـان
﴿
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَـتِ
وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَابَيَّنَّـهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَـبِ
أُوْلَـئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّـعِنُونَ (159)
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) ﴾
روى
جلال الدين السيوطي عن ابن عباس، أن عدداً من المسلمين أمثال «معاذ بن
جبل» و«سعد بن معاذ» و«خارجة بن زيد» سألوا أحبار اليهود عن مسائل في
التوراة قد ترتبط بظهور النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فأبى
الأحبار أن يجيبوا وكتموا ما عندهم من علم(1).
الآية - وإن خاطبت كما في أسباب النّزول، علماء اليهود - غير محدودة بمخاطبيها، بل تبين حكماً عاماً بشأن كاتمي الحق.
الآية الكريمة تتحدث عن هؤلاء بشدّة وتقول: (إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبِيِّنَاتِ وَالْهُدَىْ
مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ، أُولَئِكَ
يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ).
فالله
سبحانه وعباده الصالحون وملائكته المقربون يلعنون من يكتم الحق، وبعبارة
أخرى، كل أنصار الحق يغضبون على من كتم الحق. وأية خيانة للعالم أكبر من
محاولة العلماء كتمان آيات الله المودعة عندهم من أجل مصالحهم الشخصية
ولتضليل النّاس.
وعبارة (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ) إشارة إلى أن هؤلاء الأفراد يصادرون في الواقع جهود الأنبياء وتضحيات أولياء الله الصالحين، وهو ذنب عظيم.
والفعل
(يلعن) تكرر في الآية للتأكيد، واستعمل بصيغة المضارع لبيان استمرار
اللعن، ومن هنا فإنّ لعنة الله ولعنة اللاعنين تلاحق هؤلاء الكاتمين لآيات
الله باستمرار، وذلك أقسى صور العقاب.
«البينات» و«الهدى» لهما معنى واسع يشمل كل وسائل الهداية والتوعية والإيقاظ وإنقاذ النّاس.
ولما
كان القرآن كتاب هداية، فإنه لا يغلق منافذ الأمل والتوبة أمام الأفراد،
ولا يقطع أملهم في العودة مهما ارتكسوا في الذبوب، لذلك تبين الآية التالية
طريق النجاة من هذا الذنب الكبير وتقول: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَابُ الرَّحِيمُ).
عبارة (أنَا التَّوَابُ الرَّحِيمُ) جاءت بعد عبارة (فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) للدلالة
على كثرة محبة الله، وسبق عطفه على عباده التائبين. فيقول سبحانه لهؤلاء:
إن تبتم، أي عدتم إلى نشر الحقائق، فأنا أعود أيضاً إلى إغداق الرحمة
والمواهب عليكم.
ومن
الملفت للنظر، أن الله لم يقل أنه يقبل التوبة ممن تاب، بل يقول: من تاب
فأنا أيضاً أتوب عليه، والفرق في التعبيرين واضح، فالثاني فيه من التودّد
والتحنن وإغداق اللطف ما لا يمكن وصفه.
ثم
استعمال الضمير (أنا) في هذا الموضع يستهدف نوعاً من التودّد وبيان
الارتباط المباشر بين المتكلم والسّامع وخاصة إذا قال عظيم من العظماء:
«أنا أتكفل لك بالعمل الفلاني» حيث يختلف عما لو قال: «سنقوم نحن بانجاز
العمل» فالمحبّة الكامنة في الأسلوب الأول غير خافية على أحد.
وكلمة
«توّاب» صيغة مبالغة تبعث الأمل في نفوس المذنبين وتمزق أستار اليأس، عن
سماء أرواحهم خاصة وأنها اقترنت بكلمة (رحيم) التي تشير إلى الرحمة الإلهية
الخاصة.
كتمان
الحقائق من المسائل التي عانت منها المجتمعات البشرية على مرّ التاريخ،
وكان لها دوماً آثار سيئة عميقة استمرت قروناً واعصاراً. ويتحمل تبعة هذه
المساويء دون شك أولئك العلماء الذين يعلمون تلك الحقائق ويكتمونها.
لعل
القرآن لم يهدد ويذمّ فئة كما هدّد وذم هذه الفئة الكاتمة للحقائق. ولم
لا؟ فإن عمل هؤلاء يجرّ أجيالا متعاقبة إلى طريق الضلال والفساد، كما أن
نشر الحقائق يدفع بالأمم إلى طريق الهداية والصلاح.
البشرية تميل للحقائق بفطرتها، وكتمان الحقائق عنها يعني صدّ البشرية عن طريق تكاملها الفطري المرسوم لها.
لو
أن علماء اليهود والنصارى أعلنوا ما عندهم من حقائق بشأن النّبي
الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ونشروا ما جاء في العهدين من بشائر حول
رسول الإسلام، لانضوى أهل الكتاب تحت راية الإسلام، ولأصبحوا مع المسلمين
أمة واحدة.
كتمان
الحقائق لا ينحصر دون شك في كتمان علامات النّبوة والبشائر بالنّبي
الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل يشمل كتمان كل حقيقة تستطيع أن تدفع
النّاس إلى الفهم الصحيح بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.
السكوت
في مواضع يجب فيها البيان قد يكون من مصاديق كتمان الحق، وذلك يكون في
موارد يحتاج النّاس فيها بشدّة إلى فهم الحقائق ويستطيع العلماء فيها أن
يلبّوا هذه الحاجة.
بعبارة
أخرى: نشر الحقائق التي يعاني منها النّاس لا يتوقف على السّؤال، وما يذهب
إليه صاحب المنار من أن كتمان الحقائق يكون في مواضع السؤال ليس بصحيح.
خاصة وأن القرآن لا يتحدث عن كتمان الحقائق فحسب، بل يتحدث في مواضع اُخرى
عن تبيين الحقائق أيضاً، وهذا يرد على أولئك الذين يلتزمون جانب الصمت أمام
الإنحرافات بحجّة عدم وجود سائل يطرح عليهم سؤالا بشأن تلك الانحرافات.
يقول سبحانه:
(وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ)(2).
جدير
بالذكر أن إلهاءَ النّاس بالمسائل الفرعية، لصرف أنظارهم عن المسائل
الأساسية الحياتية نوع من كتمان الحقائق. إذا لم يشمله فرضاً تعبير «كتمان
الحقائق» فهو مشمول حتماً بملاك وفلسفة كتمان الحق.
حملت
الأحاديث بشدّة أيضاً على كاتمي الحق، فروي عن رسول الله(صلى الله عليه
وآله وسلم) قال: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْم يَعْلَمُهُ فَكَتَمَ أُلْجِمَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَام مِنْ نَار»(3).
ونعيد هنا القول أن ابتلاء الناس بمسألة والحاجة الى بيانها يحل محل السّؤال. وبيان الحقائق في هذه الحالة واجب.
وسُئل الامام أمير المؤمنين(عليه السلام):
«مَنْ
شَرُّ خَلقِ اللّهِ بَعدَ إبلِيسَ وَفِرعَونَ؟ قَالَ: العُلَمَاءُ إذا
فَسَدوا، هُم المُظهِرُونَ لِلأبَاطِيلِ، الكَاتِمُونَ للحَقَائِقِ،
وَفِيهِم قَالَ اللّهُ عَزّوجَلَّ: (اُولئك يَلعَنهُم اللّهُ ويَلعَنُهُم
اللاعِنُونَ)(4)
اللعن
في الأصل: الطرد والإبعاد الممزوج بالغضب والاستياء. فاللعن الإلهي إذن
إبعاد الإنسان عن رحمة الله، وعن جميع المواهب المغدقة على عباده.
وما
قيل بشأن تقسيم اللعن إلى: لعن في الآخرة، وهو العذاب والعقوبة، ولعن في
الدنيا وهو سلب التوفيق، إنما هو من قبيل بيان المصداق، لا حصر اللعن بهذين
القسمين.
وكلمة
(اللاعنون) لها معنى واسع لا يقتصر على الملائكة والمؤمنين، بل يشمل كل
الموجودات التي تتحدث بلسان القال أو الحال. وفي بعض الروايات نرى أن كل
الموجودات تدعو لطلب العلم كقول المعصوم: «وَإِنَّهُ يَسْتَغْفِرُ
لِطَالِبِ الْعِلْمِ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى
الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ»(5)
وإن استغفرت هذه الموجودات لطالب العالم، فمن الطبيعي أن تلعن كاتمه.
4 - كلمة (توّاب) صيغة مبالغة من تاب:
عاد،
وتبين حقيقة انفتاح باب التوبة أمام الإنسان، حتى ولو انخدع الإنسان
بوساوس الشيطان بعد توبته، فيستطيع أن يتوب ثانية ويعود إلى الله ويكشف ما
عنده من الحق، فالله توّاب، ولا يجوز اليأس من رحمته وعفوه.