باتت العائلة المفجوعة ليلة الحاديّة عشرة من المحرّم بحالة لا يستطيع أيّ قلم شرحها ووصفها، ولا يستطيع أيّ مصوّر أن يصوّر جانباً واحداً من جوانب تلك الليلة الرهيبة.
قبل أربع وعشرين ساعة من تلك الليلة باتت العائلة المكرّمة وهي تملك كلّ شيء، وهذه الليلة أظلمت عليها وهي لا تملك شيئاً ؛ رجالها صرعى مرمّلون بدمائهم، وأطفالها مذبحون، والأموال قد نُهبت، والأزر والمقانع سُلبت، والظهور والمتون قد سوّدتها السياط وكعاب الرماح.
ليس لهم طعام حتّى يقدّموه إلى مَنْ تبقّى من الأطفال، ولا تسأل عن المراضع اللواتي جفّ اللبن في صدورهنَّ جوعاً وعطشاً.
واستولت على العائلة وخاصةً الأطفال حالة الفواق، وهي حالة تشنّج تحصل للإنسان حينما يبكي كثيراً، فتتشنّج الرئة، ويخرج النفس متقطّعاً.
يا للفاجعة! يا للمأساة! يا للمصائب! لا غطاء، ولا فراش، ولا ضياء، ولا أثاث، ولا طعام. قد أحدقت السيّدات بالإمام زين العابدين عليه السّلام وهو بقيّة الماضين، وثمال الباقين، وهنَّ يتفكّرنَ بما خبأ لهنَّ الغد من اُولئك السفّاكين.
فالفاجعة لم تنته بعد، والظلم بجميع أنواعه بانتظار آل رسول الله الطيبين الطاهرين، والحوادث المؤلمة سوف تمتدّ إلى غدٍ وما بعد غدٍ، وإلى أيّام وشهور، ممّا لا بالبال ولا بالخاطر. وسوف تبدأ رحلة طويلة مليئة بالآلام والآهات والدموع.
وحكي أنّ السيّدة زينب عليها السّلام تفقّدت العائلة في ساعة من ساعات تلك الليلة، وإذا بالسيّدة الرباب لا توجد مع النساء، فخرجت السيّدة زينب ومعها اُمّ كلثوم، وهما تناديان: يا رباب، يا رباب.
فسمعها رجل كان موكّلاً بحراسة العائلة، فسألها: ماذا تريدين؟
فقالت السيّدة زينب: إنّ امرأةً منّا مفقودة ولا توجد مع النساء.
فقال الرجل: نعم، قبل ساعة رأيت امرأة منكم انحدرت نحو المعركة.
فأقبلت السيّدة زينب حتّى وصلت إلى المعركة، وإذا بها ترى الرباب جالسة عند جسد زوجها الإمام الحسين (عليه السّلام) وهي تبكي عليه بكاءً شديداً وتنوح، وتقول في نياحتها:
وا حسيناً وأينَ منّي حسينٌ ***أقـصدَتْه أسـنّةُ الأدعياءِ
غـادروهُ في كربلاءِ قتيلاً *** لا سقى اللهُ جانبي كربلاءِ
فأخذت السيّدة زينب عليها السّلام بيدها وأرجعتها معها إلى حيث النساء والأطفال.
وفي هذا الجو المتوتّر، والوضع المقرح للفؤاد، يقول الإمام زين العابدين عليه السّلام: فتحت عيني ليلة الحاديّة عشر من المحرّم، وإذا أنا أرى عمّتي زينب تصلّي نافلة الليل وهي جالسة، فقلتُ لها: يا عمّة، أتصلين وأنت جالسة؟.
قالت: نعم يابن أخي، والله إنّ رجلي لا تحملني.