عبدالرحمن جاسم
«ماذا نفعل معهم؟ قالها لي جورج دبليو بوش بكل الثقة الموجودة في الدنيا أنني سأجد له الحل المناسب. قلت له وأنا أعرف أنني – والله - قد أكون مخطئاً أشد الخطأ: نلاحقهم حتى آخر العالم!»
بول وولفيفيتز
يتحصل أفيخاي أدرعي الناطق الرسمي بلسان جيش العدو الصهيوني على آلاف المتابعين العرب على مواقع التواصل الاجتماعي. ذلك أمرٌ عاديٌ للغاية إذا ما عرفنا أن سفارة الصهاينة نفسها في الأردن، لديها ما يقرب من عشرين ألف «معجبٍ» عربي على الموقع نفسه. ما سر الأمر؟ لماذا يتحول قتلة الأطفال فجأة إلى مرغوبين وبشدة؟ هل هي فكرة المحجوب والمرغوب؟ أم أن هناك «قوةً» خفية تشد خيطاً رفيعاً لتجذب معها آلاف الناس.
الحالة القطرية
يسر جوزيف ناي الابن بالحل السحري: الإقناع والسيطرة غير المباشرة. فدولة مثل قطر، هي دولةٌ صغيرة الحجم (مساحتها 11.473 كلم مربع وعدد سكانها قرابة المليوني نسمة)، كبيرة التأثير، لا تستخدم قدراتٍ عسكرية أبداً، كونها لا تملكها أصلاً، وحتى ولو امتلكتها لن تستطيع أن تنافس جيرانها الأكبر حجماً من ناحية المساحة، أو من حيث عدد السكان. بدا تأثير قطر كبيراً مع بدايات ما سمي بالربيع العربي (أواخر 2010 بدايات 2011). دولة خليجية صغيرة، لا يعرفها أحدٌ ببوقٍ إعلامي هائل الهجم (قناة الجزيرة الفضائية) أكبر مما كانت تتحمله أنظمةٌ ديكتاتورية متخلّفة. حاولت الأنظمة المواجهة فلم تستطع لسببين رئيسيين: لا تستطيع تهديد قطر عسكرياً، كما أنّها لا تستطيع شرائها بالمال. الدولة الصغيرة التي تمتلك قاعدةً أميركية في العيديد لا تخاف أحداً، وهي لا تخاف باعتبار أن أي هجومٍ عليها سيكلّف المعتدي الكثير، فضلاً عن حماية «الأخ الأميركي» الأكبر. أما المال، فتلك حكايةٌ أخرى. تنبهت قطر إلى أنه لن يكون هناك حدثٌ يستحق التصوير إعلامياً ما لم ينصب مسرحٌ «تلفزيوني». كانت الحاجة وبشكلٍ كبير لمسرح عرض وأبطال متحاربين وفوق كل هذا «قدر» كما في المسرح الإغريقي. وهذه المرة كان القدر أميركياً بحق، هذا الأمر الذي يسميه الباحث الفرنسي دومينيك وولتون Peopolisation، قائلاً: «التماهي المريب مع الأقوياء تبرر كل الانحرافات، وكل ذلك يعزز الوجود الكلي للإنترنت الذي يفاقم ثقافة الطوارئ والبصبصة». مثل «الأميركي» القدر لأنه ببساطة عبّر عن تطلعات الناس صوب الديمقراطية. كانت قوة الأميركي الناعمة تخترق كل الحجب. فتن الناس بالديمقراطية، بتغيير الرئيس، بالثياب الأميركية، بالحريات، بالصحافة المنطلقة، بالتلفزيونات الكثيرة، وكان القطري مجرد صلة الوصل وأداة العرض، تلفزيونٌ يصوّر كل ذلك، لا يعري الأنظمة القمعية بمقدار ما يصور اهترائها. بنفس الوقت على عادة كل خبراء الحروب الناعمة وقوتها، لا يصوّر إلا بمقدار الحاجة للرؤية، فلم يتحدث أبداً عن اهتراء أنظمة الحكم في الخليج العربي أو التدخل الأميركي في هذه الدول، حتى إن واحدةً من الثورات (الثورة البحرينية) أغفلت بشكلٍ متواصل وتام بسبب أنها خارج سرب «الثورات» المرسوم.
أبعد مما نطال
بعد أفق صراع حضارات مغلق وربيع عربي متأرجح لامنتم، وجد الأميركي و»خزانات تفكيره» (Think Tanks) أن ما كان يجب أن يحصده بات أبعد منالاً، الشعوب خلف المتوسط لاتزال تملك القدرة على الرفض والمقاومة، بخلاف مثيلاتها في شرق آسيا التي اعتنقت الغربنة بشكل تام بخلاف دولة أو اثنتين. ماذا نفعل معهم؟ ما هي الطرق الأنجع للتعامل مع شعوب ذات أنظمة مطاطة/ ما بعد قمعية، فساهم في البداية في دعم الإسلامويين للسلطة (في مصر وتونس مثلاً) كونهم كانوا – بحسب الظاهر - الأقدر والأكثر تنظيماً على الحكم. سقط الإسلامويون في الامتحان، لم يستطيعوا تلبية مطالب العم سام، فهو كان يرغب في تحصيل نتائج سريعة، مكاسب مشابهة لتلك التي كان سيحصل عليها لو انتصر عسكرياً. ذلك المطلب لم يكن إسلامويو مصر قادرين على تلبيته مثلاً، لذلك كان سقوطهم المدوي والسريع، وهو ذاته القشة التي ستقصم ظهر البعير في تونس عند الغنوشي وحركته لاحقاً.
سوريا كانت الحالة المختلفة، سنوات الصراع فيها كانت ذات أبعاد مختلفة وعلى مراحل: ثورةٌ شعبية: «تغطية تلفزيونية، مسرح وأضواء»، ثورةٌ مسلحة: «نحمي أنفسنا والمدنيين»، لا ثورة: «مجرد مسلحين بلا أي رأس»(بمعنى آخر «قطاع طرق»)، تكفيرييون جهاديون: «من أقاصي الأرض جئنا»، داعش: «تاجر البترول الصغير». كان الأميركي يتوقع هكذا خطّة، لكنها كانت خطةً جانبية مهملة، لم يكن ليتوقع حدوثها سريعاً، فثلاث سنوات تعتبر مدّة قصيرة في عمر الشعوب وثوراتها. أحرقت الثورة السورية نفسها، على طريقة الفراشات. لكن قوة الأميركي الناعمة بقيت ذات المدى الأكبر والأكثر تأثيراً: بقيت «جزيرة» قطر، و»عربية» السعودية طبولاً تقرع دعماً لثورةٍ انتهت مدّتها، ولم تعد موجودة حتى في خيال صنّاعها. الكترونياً: ظلت مواقع التواصل الاجتماعي (الأميركية 100 بالمئة) هي الأساس في تواصل «الثورة» في سوريا مع جمهورٍ لا يزال يحلم بالثورة «الحلم» التي لن تأتي. ظل الأميركي بطلاً محرراً وحراً، إضافةً إلى أنه كسب جمهوراً لم يكن ليحلم أبداً بالوصول إليه. جمهور كان في المعتاد يقف على الجانب الآخر منه، جمهور بات يعتبر: فلسطين أرضاً إسرائيلية، الأميركي محررٌ للعراق، تحرير فلسطين هرطقةً وكذباً، الوقوف بوجه «العولمة» و»الرأسمالية» ضرباً من ضروب الخيال، وأهم من ذلك: لا للمقاومة تحت أي شعار. هذا الجمهور حصل عليه «اليانكييز» من دون طلقة واحدة –رسمياً- من جنديٍ أميركي. الصفعة الناعمة، تترك أثراً تماماً كغيرها.
لكن الفائز الأكبر لم يكن الأميركي بالتأكيد. فاز الصهاينة وحصدوا نقاط اللعبة حقاً. يجيد الإسرائيليون لعبة الإعلام منذ سنين، لذلك لم يكن غريباً مد يد العون لجرحى ومصابي «الجيش الحر» وحتى علاجهم في مستشفيات فلسطين المحتلة، مع إضافة رشات التوابل المناسبة: يأتي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بنفسه لتفقد الجرحى، متطوعة صهيونية «بطلة» تترك كل شيء لعلاج وإنقاذ محاربي الحرية الجدد، فضلاً عن لقاءاتٍ متلفزة مع شباب الثورة المؤكدين على أخوة الدم بينهم وبين الصهاينة. يربح الصهيوني الجولة أيضاً، من دون توجيه صفعة واحدة. الجمهور الكبير هو ذاته، سيجد في الصهاينة حلفاء طبيعيين، خصوصاً مع إعلان أقطاب من المعارضة في أحيان كثيرة استعدادهم للتحالف مع الشيطان ضد آل الأسد. الشيطان كان حاضراً ويبتسم. قبيل الأزمة السورية، كان أفيخاي أدرعي شخصاً غير معروف، لربما حتى لم يكن أحدٌ يستسيغه إلا قناة الجزيرة. القنوات الغربية لم تكن لتهتم بالحصول على رأيه في شيء، إلا في حالات الضرورة القصوى، اليوم؟ بات الرجل وجهاً إعلامياً متألقاً، فنجومية الفيسبوك (ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى) هي نجومية «عصرية»، مرغوبةٌ وبشدة. للرجل جمهور عربي، يكذب من يقول بأنه جمهورٌ كاره، فالتعليقات الكثيرة الشاتمة، يمر بين حناياها تعليقات من طينة: «لقد عالجوا اخوتنا الثوار»، «لقد كانوا أفضل من جميع العرب معنا»، «لقد أوفوا بعهودهم ولم يكذبوا علينا». هذا الجمهور بات لا يرى في أدرعي عدواً، بات يراه ضابطاً في جيشٍ قد يأتي يوماً لتحريره مما هو فيه. لهذا الحد أدت الحرب الناعمة (بالإضافة إلى الحرب المباشرة وأسبابٍ أخرى بالتأكيد) هدفها وآتت أكلها. ما هو المستقبل «الناعم» إذاً بحسب «خزانات التفكير» ذاتها؟ عراقياً، دولة كردية في الشمال، دولةٌ سنية ما بين الرقة وحتى حدود بغداد، دولة شيعية في ما تبقى وعلى حدود إيران، سوريا ستظل تسبح في بحر دمائها، ويظل مخاضها طويلاً. سيمشي لبنان طريق جلجلة آخر، لن يهتم به أحد، لكنه سيكون طريق جلجلة، لأنه لابد من بقاء حزب الله مشغولاً وبعيداً من «راحة قوى». فلسطين؟ تكرارٌ لأحداث معادة لا أكثر ولا أقل. هل خسر الأميركي جنوداً في هذه المعركة؟ كلا. هل هو متجه للفوز؟ ربما!