مواجهة الإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام للسلطة
في المواجهة الّتي جرت بين الإمام الهادي عليه السلام وحكّام زمانه فإنّ الّذي انتصر في الظاهر والباطن هو هذا الإمام عليه السلام . ففي زمن إمامته حكم ستّةٌ من الخلفاء واحداً تلو الآخر، وهلكوا جميعاً، واحداً تلو الآخر. وآخرهم كان المعتزّ الّذي قتل الإمام عليه السلام ولم يلبث من بعده إلا قليلاً. وهؤلاء الخلفاء ماتوا أذلّاء في الغالب، أحدهم قتله ابنه والآخر على يد ابن أخيه، وبهذه الطريقة تشتّت العبّاسيّون وانقرضوا، بعكس الشيعة. فالشيعة في زمن الإمام الهادي والإمام العسكري عليهم السلام ، ورغم ما فيه من عنفٍ وقمعٍ كانوا يزدادون يوماً بعد يوم انتشاراً وقوّةً.
لقد عاش الإمام الهادي عليه السلام 42 سنة قضى 20 سنة منها في سامرّاء. وكان يمتلك فيها مزرعةً، وفي تلك المدينة كان يعمل ويعيش. وكانت سامرّاء في الواقع كمعسكر بناه المعتصم لغلمانه التّرك المقرّبين له - وهؤلاء الترك هم غير الأتراك الّذين يعيشون في إيران أو في آذربايجان أو سائر النقاط، والّذين أحضرهم من تركستان وسمرقند، ومن منطقة مانغوليا وآسيا الشرقية واحتفظ بهم في سامرّاء. وهؤلاء الأتراك، ولحداثة إسلامهم، لم يكونوا يعرفون الأئمّة ولا المؤمنين ولا يفهمون عن الإسلام شيئاً. لهذا صاروا يضايقون الناس وأوجدوا بينهم وبين العرب - أهالي بغداد - النزاعات والمشاجرات. وفي مدينة سامرّاء نفسها، اجتمع عددٌ ملحوظٌ من كبراء الشيعة في زمن الإمام الهادي عليه السلام وتمكّن الإمام عليه السلام من إدارتهم، وإيصال رسالة الإمامة بواسطتهم إلى مختلف مناطق العالم الإسلامي بواسطة الرسائل وهذه الشبكات الشيعية في قم وخراسان والريّ والمدينة واليمن وفي المناطق البعيدة وفي جميع أقطار العالم هي الّتي استطاعت أن تروّج وتنشر وتزيد من المؤمنين بهذا المذهب يوماً بعد يوم. وقد استطاع الإمام الهادي عليه السلام أن يقوم بكلّ هذه الأعمال تحت ظلّ بريق السيوف الحادّة والدمويّة لأولئك الخلفاء الستّة ورغماً عن أنوفهم. ويوجد حديثٌ معروفٌ حول وفاة الإمام الهادي عليه السلام يُعلم من عباراته تواجد جمعٍ ملحوظٍ من الشيعة في سامرّاء. بحيث أنّ الجهاز الحاكم لم يكن يعرف عنهم شيئاً، لأنّه لو كان يعلم بهم لكان قضى عليهم عن بكرة أبيهم. لكنّ هذه الجماعة، ولأنّها استطاعت أن توجد شبكة قويّة فإنّ الجهاز الحاكم لم يتمكّن من الوصول إليها.
إنّ يوماً من جهاد هؤلاء العظماء - الأئمّة عليهم السلام - يؤثّر بمقدار سنوات. ويومٌ واحدٌ من حياتهم المباركة يساوي سنواتٍ من جماعةٍ تعمل ليل نهار على مستوى التأثير في المجتمع. هؤلاء العظماء قد حفظوا الدين بهذه الطريقة، وإلّا فإنّ ديناً يقف على رأسه المعتزّ والمتوكّل والمعتصم، والمأمون، ويكون علماؤه رجالٌ كيحيى بن أكثم - الذي رغم أنّه كان عالم البلاط، فقد كان من الفسّاق والفجّار المتجاهرين من الدرجة الأولى - لا ينبغي أساساً أن يبقى؛ ولكان ينبغي والحال هذا، أن يُجتثّ من جذوره وينتهي كلّ شيء. فجهاد الأئمّة عليهم السلام وسعيهم لم يحفظ التشيّع فحسب، بل القرآن والإسلام والمعارف الدينية؛ وهذه هي خاصّية العباد الخالصين والمخلصين وأولياء الله. فلو لم يكن للإسلام أمثال هؤلاء من أولي العزم، لما استطاع أن يعود غضّاً طريّاً ويوجد هذه الصحوة الإسلامية بعد 1230 سنة؛ بل كان ينبغي أن يزول شيئاً فشيئاً. لو لم يكن للإسلام هؤلاء الّذين جذّروا هذه المعارف العظيمة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الأذهان، على مرّ التاريخ الإنسانيّ والإسلامي، لكان ينبغي أن يزول من الوجود وينتهي كلّ شيء، ولا يبقى منه أي شيء. ولو بقي، فلم يكن ليبقى من معارفه شيءٌ، كالمسيحية واليهودية، اللتين لم يبقَ من معارفهم الأساسية أيّ شيء تقريباً. فأن يبقى القرآن سالماً، والحديث النبويّ، وكلّ هذه الأحكام والمعارف الإسلامية وذلك بعد أكثر من 1000 سنة، وتتمكّن من أن تبرز في قمّة المعارف الإنسانية, فهذا ليس بالأمر الطبيعيّ، بل كان هناك عملٌ غير طبيعيّ يؤدَّى من خلال الجهاد. وبالتأكيد، كان على طريق هذا العمل الكبير الضرب والسجن القتل وكلّ هذه لم تكن بالنسبة لهؤلاء العظماء شيئاً.
يوجد حديثٌ حول طفولة الإمام الهادي عليه السلام ، حينما أحضر المعتصمُ في عام 218 هجريّة، الإمام الجواد عليه السلام قبل شهادته بسنتين من المدينة إلى بغداد، وبقي الإمام الهادي عليه السلام حينها مع أهله في المدينة والّذي كان وقتها بعمر ست سنوات. وبعد أن أُحضر الإمام الجواد عليه السلام إلى بغداد سأل المعتصم عن أسرته وأهله، وعندما سمع أنّ ابنه البكر عليّ بن محمّد ابن ست سنوات، قال إنّه خطرٌ ويجب أن نفكّر بحلٍّ له. وقد أمر المعتصم رجلاً من أقاربه أن يذهب من بغداد إلى المدينة، وأن يجد فيها من هو عدوّ لأهل البيت، وأن يودع عنده هذا الطفل، ليكون معلّماً له ويربّيه ليصبح عدوّاً لأسرته ومنسجماً مع الجهاز الحاكم. فجاء هذا الشخص من بغداد إلى المدينة، واختار أحد علمائها المدعوّ الجنيدي الّذي كان من أشدّ المخالفين والمعاندين لأهل البيت - وكان في المدينة عددٌ من أمثال هؤلاء العلماء - لينهضوا بهذا العمل، وقال له: إنّني مأمورٌ أن أجعلك مربٍّ ومؤدّبٍ لهذا الطفل. ولا ينبغي أن تسمح لأيّ شخصٍ بالتواصل والارتباط معه، وأريدك أن تربّيه بهذه الطريقة وبهذا الشكل. وقد سجّل التاريخ اسم هذا الشخص الجنيدي. وكان الإمام الهادي عليه السلام - كما ذكرت - بعمر ست سنوات في ذلك الوقت، والأمر كان أمر الحكومة، فمن الّذي يستطيع أن يعترض على مثل هذا الأمر.
وبعد مدّةٍ جاء أحد المقرّبين من الجهاز الحاكم ليطّلع على الجنيدي، ويسأل عن أحوال ذلك الطفل الّذي أودعه إيّاه. فقال الجنيدي: "أي طفلٍ هذا، أهذا هو الطفل؟، إنّني أبيّن له مسألةً في الأدب، فيبيّن لي أبواباً من الأدب، حيث أتعلّم منه! فأين درس هذا الطفل وتعلّم؟وأحياناً أطلب منه عندما يدخل إلى الحجرة أن يقرأ سورةً من القرآن، وعندما يدخل (وهو يريد أذيّته) يسأل أيّ سورةٍ أقرأ، فأقول له: اقرأ سورة كبيرة، كسورة آل عمران مثلاً، فيقرأها عليّ ويبيّن لي مواضع الإشكال في قراءتها. إنّهم علماءٌ وحفّاظٌ للقرآن، وعلماء بالتأويل والتفسير، أيّ طفلٍ هذا؟". وقد استمرّ ارتباط هذا الطفل - الّذي كان في الظاهر طفلاً، ولكنّه وليّ الله،﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾1 - مع هذا الأستاذ لمدّة، وأصبح هذا الأستاذ من الشيعة المخلصين لأهل البيت.2 ذهب غلامٌ ليأتي بالماء*** فحمله النّهر معه
لقد كان النصر حليفهم في جميع الميادين، وهزموهم جميعاً في كلّ المواضع. فدِعبل الّذي كان معارضاً لكلّ الخلفاء العبّاسيين، وذمّ آباءهم في أشعاره، وترك لكلّ واحدٍ منهم سجلّاً في التاريخ، كان له عدّة أبياتٍ حول المعتصم. ويقول فيه أنّنا قرأنا في الكتب أنّ بنو العبّاس هم سبعة خلفاء، والآن يقولون لنا ثمانية؛ فمن هو الثامن؟ وأراد أن يشبّههم بأصحاب الكهف الّذي كان كلبهم ثامنهم، ثمّ يقول بعدها: فأين أنت من ذاك الكلب؟" فذاك الكلب لم يرتكب أيّة معصيةٍ أو ذنبٍ بين يديّ الله، وأنت مليءٌ بالذنوب والمعاصي: ملوك بني العباسِ في الكتبِ سبعةٌ ولم تأتِنـا عن ثامـن لـهمُ كُتـبُ، كذلك أهل الكهفِ في الكهفٍ سبعةٌ خيـارٌ إذا عُـدُّوا وثامنـهم كلـبُ، وإنـي لأُعلـي كـلبَهم عنك رفعةً لأنَّك ذو ذنْب وليس له ذنْـبُ".(30/05/1383)
وقد أحضروا الإمام من المدينة إلى سامرّاء ليكون تحت مراقبتهم، ولكنّهم وجدوا أنّه ما من فائدة. فلو اطّلعتم على حالات هؤلاء الأئمّة الثلاثة في المناقب3 وغيرها، لالتفتّم إلى أنّ شبكة العلاقات الشيعية في زمان هؤلاء الثلاثة كانت أكثر منها في زمن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام . فكانت تُرسل إليهم الكتب والرسائل من أقصى نقاط العالم وكذلك الأموال والمسائل، في حين أنّهم كانوا يعيشون ضمن نطاقٍ ضيّق. وقد أضحى الإمام الهادي عليه السلام في سامرّاء محبوباً من قبل الناس وكان الجميع يحترمونه، ولم يكن يتعرّض لأيّة إهانة. ثمّ فيما بعد وعند وفاته انقلب حال المدينة كلّها، وهذا الأمر تكرّر مع الإمام العسكري عليه السلام ؛ وهناك أدرك الحكّام وجود سرٍّ ما، وكان عليهم أن يشخّصوه ويتعاملوا معه. فالتفتوا إلى قضية القدسيّة. وهنا نجد المتوكّل يحضر الإمام عليه السلام إلى مجلسه، الّذي هو مجلس خمرٍ وسكرٍ، لكي ينتشر الخبر في كلّ مكان، أنّ علياً بن محمد كان نديماً للمتوكّل وقد جالسه في مجلس الخمر واللهو! فانظروا أنتم أيّ تأثيرٍ تركه هذا الخبر. لقد نظر الإمام عليه السلام إلى القضيّة من زاوية الإنسان المجاهد ووقف مقابل هذه المؤامرة. فذهب الإمام عليه السلام إلى بلاط المتوكّل، واستطاع أن يبدّل مجلس سكره إلى مجلسٍ عابقٍ بالمعنويّات. فبذكر الحقائق وإنشاد تلك الأشعار الشامتة، هزم المتوكّل بحيث أنّ هذا المتوكّل وبمجرّد أن انتهى الإمام من كلماته، نهض من مكانه وأحضر للإمام الغالية(عطر مركّب من المسك والعنبر) وشيّعه بكلّ أدبٍ واحترام. فقد قال له الإمام، هل تتصوّر أنّك إذا جلست هنا، فإنّك ستهرب من قبضة الموت؟! وهكذا بيّن للمتوكّل كلّ ما يجري عند الموت وما بعده، حتّى أكل الديدان له. فاستطاع الإمام أن يبدّل المجلس تبديلاً تامّاً، ويقلبه رأساً على عقب، وأن يخرج من البلاط.
باتوا على قللِ الاجبال تحرسُهم غُـلْب الرجالِ فما أغنتهمُ القُللُ واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم وأودعوا حفراً يـابئس ما نزلوا ناداهمُ صارخٌ من بعد ما قبروا أين الاسرّةُ والتيجانُ والحللُ أيـن الوجوه الّتي كانتْ منعمةً من دونها تُضربُ الأستارُ والكللُ فـافـصـحَ القبرُ حين ساءلهم تـلك الوجوه عليها الدودُ يقتتلُ قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا فأصبحوا بعد طول الأكلِ قد أكلوا وطالما عمّروا دوراً لتُحصنهم ففارقوا الدورَ والأهلينَ وارتحلوا وطالما كنزوا الأموال وادّخروا فـخلّفوها على الأعداء وانتقلوا أضـحـت منازلُهم قفراً معطلةً وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا سـل الـخـليفةَ إذ وافت منيتهُ أين الحماة و أين الخيلُ والخولُ أين الرماة ُ أما تُحمى بأسهمِهمْ لـمّـا أتـتك سهامُ الموتِ تنتقلُ أين الكماةُ أما حاموا أما اغتضبوا أين الجيوش الّتي تُحمى بها الدولُ هيهات ما نفعوا شيئاً وما دفعوا عـنك المنية إن وافى بها الأجلُ فكيف يرجو دوامَ العيش متصلاً من روحه بحبالِ الموتِ تتصلُ
وهذه المواجهة الّتي ابتدأها الخليفة المتسلّط والمتعجرف، وكان في المقابل شابٌّ لا دفاع له، يبدو في الظاهر الأضعف، تحوّلت إلى حربٍ نفسية لم يكن فيها الحربة والسيف. نحن لو كنّا هناك لما استطعنا أن نفعل ما فعله الإمام عليه السلام . إنّ الإمام عليه السلام هو الّذي استطاع أن يشخّص هذه الوضعية ويتحدّث بطريقة لا تغضب الخليفة. كان من الممكن مثلاً أن ينتفض الإمام عليه السلام فجأةً ويرمي بكلّ كؤوس الشراب أرضاً. ولكن هذا ما كان ليكون ردّة فعلٍ جيّدة، وما كانت لتؤتي ثمرتها، لكنّ الإمام عليه السلام تصرّف بطريقةٍ أخرى. وهذا البعد في القضية مهمٌّ جداً.
يجب عليكم أن تلتفوا إلى هذه النقطة في حياة الأئمّة وهي أنّ هؤلاء العظماء كانوا دائماً في حالة جهاد، جهادٌ روحه سياسيّة. وذلك لأنّ من يجلس على مسند الحكم، كان يدّعي الدين. وكان يراعي ظواهر الدين. حتّى أنّه كان يتقبّل في بعض الأوقات، رأي الإمام الدينيّ. مثل تلك المسائل الّتي سمعتموها في حياة المأمون، حينما كان يقبل رأي الإمام عليه السلام علناً. أي أنّه لم يكن يأبى أبداً أن يقبل أحياناً الرأي الفقهيّ. فالشيء الّذي كان يؤدّي إلى وجود مثل هذه المواجهة والمعارضة ضدّ أهل البيت هو أنّ أهل البيت كانوا يعدّون أنفسهم الأئمّة، وكانوا يقولون نحن أئمّةٌ، وفي الأساس إنّ هذا كان يُعدّ أكبر مواجهةٍ للحكّام. لأنّ الّذي صار حاكماً، كان يُعدّ نفسه إماماً للناس، كان يرى الشواهد والقرائن المطلوبة في الإمام موجودةٌ فيهم عليهم السلام ، وليست موجودةٌ فيه، وكان يعتبر هذا الإمام خطرٌ على حكومته، لأنّه ليس إلّا مدّعٍ. وقد كان الحكّام يحاربون بمثل هذه الروحية العدائيّة، وكان الأئمّة عليهم السلام يقفون كالطود الشامخ. من البديهيّ في مثل هذه المواجهة أن يكون للمعارف والأحكام الفقهيّة والأخلاق الّتي كان الأئمّة يروّجون لها مكانها الطبيعيّ. وكانت تربية المزيد من التلامذة والأتباع وتوسعة الروابط الشيعية تزداد يوماً بعد يوم.
وهذا ما حفظ الشيعة. فانظروا أنتم إلى مرامٍ تعمل ضدّه الحكومات لمدّة 250 سنة فهل ينبغي أن يبقى منه شيء. بل يجب أن يزول بالكامل، ولكن أنتم ترون الآن حال الدنيا، وإلى أين وصل الشيعة.
ينبغي أن نلاحظ هذه النقطة في الأشعار الّتي أُنشدت في الإمام الصادق والإمام الهادي والإمام العسكري عليهما السلام . لقد جاهدوا وقدّموا أنفسهم في هذا الجهاد. هذا الطريق الّذي استمرّ نحو هدفٍ محدّد. فأحياناً، يرجع أحدهم، وأحياناً يذهب أحدهم من هذه الجهة، إلا أنّ الهدف واحد. إنّ هؤلاء العظماء حقّقوا نجاحاً أكبر من الإمام الحسين عليه السلام ، الّذي وضع هذا الأساس؛ لأنّه بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام ، "ارتدّ الناس بعد الحسين إلّا ثلاثة". لكن في زمن الإمام الهادي عليه السلام عندما تنظرون، فإنّ كلّ العالم الإسلامي كان قد صار في قبضة الأئمّة عليهم السلام . حتّى أنّ العبّاسيين وقفوا عاجزين ولم يعرفوا ماذا يفعلون، فلذلك أقبلوا على الشيعة.
كان أحد الخلفاء العبّاسيين قد كتب رسالةً وأمر بذكر أهل البيت في الخُطب، وأن يُقال أنّ الحقّ مع أهل البيت. وقد سجّل التاريخ هذه الرسالة. كُتب فيها أنّ وزير البلاط أسرع يعدو إلى الخليفة وقال: "ماذا تفعل؟!" فلم يجرؤ أن يقول أنّ الحقّ ليس مع أهل البيت! لكنّه قال: "اليوم هناك من ثار في جبال طبرستان وأماكن أخرى تحت شعار أهل البيت، فلو أنّ كلامك هذا يُنشر في كلّ الأماكن، فإنّهم سيجيّشون الجيوش ويأتون إليك للتخلّص منك". فرأى الخليفة أنّ ذلك الوزير يقول حقّاً، فقال: "لا تذيعوا الرسالة"، أي أنّهم كانوا يخافون على حكومتهم. هذا وإن كان لديهم الاعتقاد، ولكنّ حبّ الحكومة والدنيا والملك منعهم من أن يؤمنوا.(30/06/1380)
انتشار التشكيلات الشيعية في العالم
إنّ ما يُقال من أنّ هؤلاء العظماء كانوا في غربةٍ تامة هو هكذا في الواقع، بعيداً عن المدينة وبعيداً عن أهلهم، وعن بيئتهم الّتي ألِفوها. ولكن إلى جانب ذلك، يوجد بشأن هؤلاء الأئمّة الثلاثة - من الإمام الجواد وحتى الإمام العسكري - نقطة أخرى وهي أنّه كلّما اتّجهنا إلى نهاية إمامة الإمام العسكري عليه السلام ، فإنّ هذه الغربة تزداد. إنّ دائرة نفوذ الأئمّة وسعة دائرة الشيعة في زمان هؤلاء الأئمّة الثلاثة إذا ما قورنت بزمان الإمام الصادق والإمام الباقر عليهم السلام ، فإنّها ازدادت عشرة أضعاف، وهذا شيءٌ عجيب. ولعلّ السبب في أنّهم قد وُضعوا تحت هذه الضغوط والتضييق، هو هذا الموضوع. فبعد توجّه الإمام الرضا عليه السلام إلى طرف إيران، ومجيئه إلى خراسان فإنّ من الأمور الّتي حدثت هو هذا الأمر. ولعلّ هذا الأمر كان في أصل حسابات الإمام الثامن عليه السلام . وقبله كان الشيعة منتشرين في كلّ الأماكن، لكنّهم لم يكونوا على اتصال ببعضهم البعض، وكانوا آيسين، وليس لديهم أي تطلّع نحو المستقبل، أو رجاء أو تفاؤل. وكانت سلطة حكومة الخلفاء في كلّ الأماكن؛ وكان قبل المأمون، هارون مع قدرته الفرعونية. وعندما جاء الإمام عليه السلام إلى طرف خراسان وعبر هذا المسير ظهرت شخصيّةٌ أمام الناس هي تجلٍّ للعلم والعظمة والصدق والنورانية؛ وما كان الناس قد شاهدوا مثل هذه الشخصية من قبل. فكم كان عدد الشيعة الّذين كان بإمكانهم قبل هذا أن يمرّوا من خراسان إلى المدينة ليروا الإمام الصادق عليه السلام ؟ ولكن في هذا المسير الطويل، شاهد الجميع هذا الإمام عن قرب. وكان شيئاً عجيباً مدهشاً، وكأنّ المرء ينظر إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . فتلك الهيبة والعظمة المعنوية والعزّة والأخلاق والتقوى والنورانيّة والعلم الوسيع أحدثت هزّة, فمهما سُئل وأيّ شيءٍ طُلب منه كان الأمر بيده، وهو الشيء الّذي ما كان الناس ليروه من قبل.
وصل الإمام الرضا عليه السلام إلى خراسان ومرو وكانت مرو هي مركز تركمانستان الحالية. وبعد سنةٍ أو سنتين، استُشهد الإمام عليه السلام وفُجع الناس. وقد كان مجيء الإمام عليه السلام - وهو المُظهِر لتجلّيات أشياء لم يسمع بها الناس ولم يروها من قبل -وكذلك شهادته - الّتي أدّت إلى فاجعة كبيرة - فقد جعل مجيء الإمام عليه السلام أجواء هذه المناطق أجواء شيعية؛ لا يعني ذلك أنّ الجميع أصبحوا شيعة، لكنّهم أصبحوا محبّين لأهل البيت. ففي هذا الجوّ انكبّ الشيعة على العمل. أنتم ترون كيف أنّه وفجأةً تظهر إقامة الأشعريين في قم. فلماذا جاؤوا؟ فالأشعريون عربٌ، لقد نهضوا وجاؤوا إلى قم وبسطوا فسطاط الحديث والمعارف الإسلامية في هذه المدينة وأسّسوا مركزاً فيها. وكذلك نجد في الريّ من هم أمثال الكليني4. فشخصٌ مثل الكليني، لا يترعرع إلّا في بيئةٍ شيعيّة وبيئةٍ اعتقادية، حتّى يصبح هذا الشاب الكليني بتلك الخصوصيات. وفيما بعد أيضاً، حينما استمرّت هذه الحركة، أنتم ترون الشيخ الصدوق5 كيف أنّه يسافر إلى هرات وخراسان وأماكن أخرى ويبدأ بجمع أحاديث الشيعة، فهذا أمرٌ مهمٌّ جدّاً. فماذا يفعل محدّثو الشيعة في خراسان؟ وماذا يفعلون في سمرقند؟ من يوجد في سمرقند؟ إنّه الشيخ العيّاشي السمرقندي، هو الّذي قيل بشأنه: "في داره الّتي كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم"6، كما ورد في كلمات الشيخ الكشّي7. والكشّي نفسه سمقرنديٌّ. لهذا فإنّ حركة الإمام الرضا عليه السلام وفيما بعد شهادته مظلوماً، هي الّتي جعلت مثل هذه ا لأجواء لصالح الأئمّة عليهم السلام ؛ وقد نهض الأئمّة للاستفادة من هذا الأمر. فالرسائل والزيارات المتبادلة الّتي كانت تجري ما كانت تحدث بطريقة عاديّة، بل كانت كلّها تجري في الخفاء، وإلّا لو كانت علنيّةً لكانوا يقبضون على أصحابها ويقطّعون أيديهم وأرجلهم. فهل على سبيل المثال يمكن مع مثل ذلك العنف والقمع الّذي مارسه المتوكّل، ومنع فيه زيارة كربلاء، أن تصل أسئلة الناس إلى الإمام عليه السلام بسهولة، ثم ترجع إليهم الإجابات؟ أو أن تُرسل الحقوق الشرعية إلى الإمام عليه السلام ، ثم يصلهم منه الإيصالات؟ فكلّ هذا دليلٌ على وجود شبكةٍ إعلاميّة وتعليميّة عظيمة لهؤلاء الأئمّة العظماء الثلاثة.
وفيما بعد الإمام الرضا عليه السلام وإلى زمن شهادة الإمام العسكري عليهم السلام ، حدثت مثل هذه القضية. فالإمام الهادي والإمام العسكري عليهما السلام استطاعا في مدينة سامرّاء تلك، الّتي كانت في الواقع بمثابة معسكر كبير - لم تكن في ذلك الكبر، بل عاصمةٌ حديثة البناء سرورٌ لكلّ من رأى(سُرّ من رأى) حيث يجتمع فيها الرؤساء والأعيان ورجال الحكومة وبعض الناس العاديين الّذين يؤمّنون الحوائج اليوميّة - أن ينظّما كلّ هذه الروابط فيما بين جميع أقطار العالم الإسلامي. عندما ننظر إلى أبعاد حياة الأئمّة نفهم ماذا كانوا يفعلون. لهذا، لم تنحصر القضيّة في تلك الفتاوى الّتي يجيبون بها على أسئلة الناس حول الصلاة والصوم والطهارة والنجاسة. بل كانوا ينطلقون من موقعية الإمام بذلك المعنى الإسلاميّ الخاص به ويتحدّثون وفقه مع الناس. وبرأيي إنّ هذا البعد يمكن الالتفات إليه إلى جانب غيره من الأبعاد. أنتم ترون أنّهم عندما أحضروا الإمام الهادي عليه السلام من المدينة إلى سامرّاء، وقتلوه في سنّ الشباب عن عمرٍ يناهز 42 سنة، أو عندما يقتلون الإمام العسكري في سنّ الـ 28 سنة، فكلّ ذلك دليلٌ على هذه الحركة العظيمة للأئمّة والشيعة وأصحابهم الكبار، عبر التاريخ. ومع أنّ جهاز الحكم كان نظاماً بوليسيّاً ويعمل بشدّة فقد استطاع الأئمّة في مثل هذا الوضع أن يحقّقوا مثل هذه النجاحات. مقصودنا أنّه ينبغي مشاهدة هذه العزّة والعظمة إلى جانب تلك الغربة.(20/02/1382)
لا يوجد أيّ زمانٍ شهدت فيه روابط الشيعة وانتشار تشكيلاتهم في كلّ أرجاء العالم الإسلامي مثل زمن حضرة الإمام الجواد والإمام الهادي والإمام العسكري عليهما السلام . فوجود الوكلاء والنوّاب، وتلك القصص الّتي تُنقل عن الإمام الهادي عليه السلام والإمام العسكري عليه السلام - مثلاً عندما كان يُحضر له المال والإمام يحدّد ماذا ينبغي أن يُفعل به - دليلٌ على هذا الأمر. أي أنّه بالرغم من الإقامة الجبريّة لهذين الإمام الجليلين في سامرّاء، وقبلهما الإمام الجواد عليه السلام بنحوٍ ما، والإمام الرضا عليه السلام بنحوٍ آخر، فإنّ الارتباط والتواصل مع النّاس كان يتّسع على هذه الشاكلة. وهذه الروابط والتواصل كانت موجودة قبل زمن الإمام الرضا عليه السلام . لكن غاية الأمر أنّ مجيء الإمام إلى خراسان كان له تأثيرٌ كبيرٌ جدّاً في هذه القضية.(18/05/1384)
إنّ أئمّتنا وطيلة الـ 250 سنة للإمامة - أي منذ رحيل نبيّ الإسلام المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم وإلى زمن وفاة الإمام العسكري - قد لاقوا الكثير من التعذيب والقتل والظلم، وحريٌّ بنا أن نبكيهم، إنّ مظلوميّتهم تستحضر القلوب والعواطف، لكنّ هؤلاء المظلومين قد انتصروا سواءٌ في مقطعٍ من الزمان أو في كلّ هذا الزمان وطوله.(30/05/1383)
2- كلستان سعدي.
3- مناقب آل ابي طالب، ج 4، ص 447-337.
4- أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي، المعروف بـ "الكليني"، صاحب الكتاب جليل القدر "أصول الكافي"، عاش في النصف الثاني من القرن الثالث والنصف الأول من القرن الرابع الهجري، وتوفي في شهر شعبان من سنة 329.
5- أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بـ "الشيخ الصدوق"، من جملة فقهاء وعلماء الشيعة في القرن الرابع للهجرة. وُلد في السنة 306 للهجرة في مدينة قم. من جملة آثاره الكتاب النفيس "من لا يحضره الفقيه" الذي هو الكتاب الثاني من الكتب الشيعية الأربعة. غادر هذا الفقيه الرفيع الشأن الدنيا في العام 381 للهجرة في مدينة الري.
6- محمد بن مسعود العياشي السمرقندي، يُعتبر من جملة علماء ومفسّري الشيعة المشهورين لأواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع للهجرة.
7- محمد بن عمرو بن عبد العزيز المشهور بـ "الشيخ الكشي"، وكنتيه "أبو عمرو"، من الوجوه الّتي سطعت في أواسط النصف الأول من القرن الرابع للهجرة وهو من العلماء المعروفين وأستاذ في علم الرجال والأخبار ومن محدّيثي الشيعة.
|